تآكل "المجال الحيوي" لإسرائيل- من التوسع الإقليمي إلى الدفاع عن الذات

المؤلف: د. عمار علي حسن10.19.2025
تآكل "المجال الحيوي" لإسرائيل- من التوسع الإقليمي إلى الدفاع عن الذات

لم تعد تل أبيب قادرة على الادعاء بثقة بوجود "مجال حيوي" خاص بها، وهو المفهوم الذي رسَّخته قبل عقود من الزمن. فقد أصبحت قوى معادية قادرة على تهديدها في صميم أراضيها، كما تجسَّد مؤخرًا في الطائرة المسيَّرة التي أطلقها الحوثيون، والتي تمكنت من الوصول إلى قلب تل أبيب دون أن يرصدها الدفاع الجوي الإسرائيلي. وقبل ذلك، شاهدنا صواريخ إيرانية تصل إلى مناطق استراتيجية في إسرائيل، بينما اعتادت المقاومة في غزة ولبنان على إطلاق صواريخها نحو مختلف مدن وبلدات ومستوطنات الدولة العبرية.

نظرية الحدود الآمنة

في الماضي، لم تكتف إسرائيل بتطبيق "نظرية الحدود الآمنة"، التي خططت بموجبها لخوض حروبها خارج الأراضي التي أقامت عليها دولتها عام 1948، بل سعت إلى تحديد "مجال حيوي" يتجاوز ما يسمى "دول الطوق العربية" أو "دول المواجهة"، ليشمل العالم العربي بأكمله، بالإضافة إلى إيران وتركيا وباكستان ودول آسيا الوسطى شمالاً وشرقًا، وإثيوبيا وزيمبابوي جنوبًا وغربًا، وصولًا إلى المحيط الأطلسي.

وتقوم إسرائيل بتقسيم هذه المساحة الجغرافية الهائلة، التي تعتبرها مجالًا حيويًا لها، إلى ثلاث دوائر: الدائرة التقليدية، التي تضم دول المواجهة. والدائرة الثانية، التي تتألف من الدول العربية التي تدعم مواجهة إسرائيل بالمال والمساندة السياسية والإعلامية في المحافل الدولية، والتي يمكنها أن تصيب خطوط مواصلات إسرائيل وإمداداتها في مقتل. أما الدائرة الثالثة، فتضم الدول الخارجية التي تؤثر مكانتها ومواقفها السياسية على الأمن القومي الإسرائيلي، وتقع خارج العالم العربي.

وقد حرصت تل أبيب على امتلاك ترسانة أسلحة قادرة على تغطية هذه الدوائر الجغرافية المتسعة، تتكون من طائرات وصواريخ وقاذفات سريعة، تستخدمها في الحروب وأغراض الردع على حد سواء. وترتكز إسرائيل في بناء هذه النظرية الأمنية على عدة اعتبارات، منها ضيق مساحتها الجغرافية، وقلة عدد سكانها، والمسافة الشاسعة التي تفصلها عن حلفائها، ووجودها في محيط شعبي يرفض وجودها، حتى في حال إبرامها اتفاقيات أو معاهدات مع بعض الحكومات العربية، بالإضافة إلى هشاشة اقتصادها الذي يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية.

وفي ضوء هذا الفهم، تتعامل إسرائيل مع دوائر مجالها الحيوي وفق سياسة ثابتة، تتجسد في منع التقارب والتنسيق بين الدول التي تشكل هذه الدوائر، والسعي الدؤوب لإحداث انقسامات داخلها، والحيلولة دون حدوث أي تواصل بين الدائرة الإسلامية والدائرة الخليجية والعربية، وإقامة علاقات وطيدة مع دول منابع النيل للضغط على مصر والسودان، وهو ما تجلى بوضوح في قضية "سد النهضة" الإثيوبي.

حدود مرنة تتمدد في كل اتجاه

لكن تصوُّر إسرائيل لمجالها الحيوي لا يقتصر على الاعتبارات الآنفة الذكر، بل يرتكز أيضًا على أيديولوجية متجذرة، تستند إلى عقيدة تروج لفكرة إسرائيل الكبرى و"أرض الميعاد". هذا الاعتقاد يغذي شهية إسرائيل للاستيلاء على أقصى مساحة ممكنة من أراضي الغير، دون توقف، وبذل كل ما لديها من قوى مادية ومعنوية ورمزية لتحقيق ذلك.

وتعكس نظرية المجال الحيوي الإسرائيلية تناقضًا جوهريًا بين ضرورتين: الحدود الجغرافية التي يجب أن تتقيد بها الدولة، أو نواتها، والأيديولوجية التي ترفض الاعتراف بحدود ثابتة، وفقًا لما جاء في أطروحة ماجستير للباحثة الفلسطينية آمنة سرحان، بعنوان "المجال الحيوي للأمن القومي الإسرائيلي في الدول العربية المجاورة".

وبناءً على ذلك، تواصل تل أبيب سياسة الاستيطان، وتشجع هجرة اليهود من مختلف أنحاء العالم إلى إسرائيل، وتحرص دائمًا على توجيه ضربات استباقية ضد أي قوة صاعدة في محيطها، وتسعى جاهدة لامتلاك القدرة على خوض حروب متكررة، واجتياح أراضٍ عربية، كما حدث في حرب يونيو/حزيران 1967، وغزو لبنان عام 1982.

ومنذ نشأتها عام 1948، أصبح المجال الحيوي جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي لإسرائيل، التي بررت ذلك بمعاناتها من ضيق العمق الجغرافي، وعدم وجود موانع طبيعية قوية، ومحاصرتها بالأعداء. انطلاقًا من هذا المنظور، ظلت الجغرافيا السياسية لإسرائيل في حالة حركة دائمة، وأصبحت حدودها مرنة، تتمدد في جميع الاتجاهات، كلما سنحت لها الفرصة، أو وجدت إلى ذلك سبيلًا. ولا شك أن تحقيق هذا الهدف الإسرائيلي البعيد المدى يتطلب إخلاء الأرض من سكانها الأصليين، وإحلال المهاجرين اليهود مكانهم.

نزعة عدوانية

تفرض نظرية المجال الحيوي على إسرائيل نزعة عدوانية حتمية، حيث تستند إلى فرضية أساسية، وهي منع ظهور أي قوة عربية في المنطقة، وضربها في مهدها، كما حدث عند قصف المفاعل النووي العراقي، وتوجيه ضربات قاصمة للجيشين المصري والسوري في حرب يونيو/حزيران 1967، التي انطلقت بعدها إسرائيل نحو ذروة قوتها، قبل أن تبدأ في التراجع التدريجي بعد حرب الكرامة ضد المقاومة الفلسطينية عام 1970، ثم حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.

وعلى الرغم من الطموحات النظرية التي تنطوي عليها نظرية المجال الحيوي لإسرائيل، فإنها لم تتمكن من تطبيقها بالكامل كما كانت تأمل. فقد اضطرت إلى إعادة سيناء إلى مصر بموجب اتفاقية السلام التي أُبرمت عام 1979، والتي كانت من بين النتائج المترتبة على الانتصار العربي في حرب أكتوبر/تشرين الأول عام 1973. كما انسحبت من أراضٍ أردنية بموجب اتفاقية وادي عربة عام 1994، وانسحبت كذلك من طرف واحد من جنوب لبنان، بل هربت في عام 2000، ولم تستطع البقاء في غزة، التي تحولت إلى مستنقع لقوات الجيش الإسرائيلي، وانسحبت من مدن في الضفة الغربية بموجب اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين عام 1993.

وفي حين أن امتلاك الدول العربية صواريخ قادرة على الوصول إلى عمق الأراضي الإسرائيلية قد حطم نظرية الحدود الآمنة، فإن امتلاك قوى مسلحة غير نظامية، وعلى رأسها حزب الله اللبناني وحركة حماس في غزة، صواريخ تغطي كامل جغرافية إسرائيل، قد وضع قيودًا صارمة على مجالها الحيوي، سواء على مستوى الفكرة المجردة، أو على مستوى محاولة تطبيقها على أرض الواقع.

وقد جاءت عملية "طوفان الأقصى" لتكون بمثابة الضربة القاضية لنظرية "المجال الحيوي" الإسرائيلية. فبعد أن كان الجيش الإسرائيلي يخوض معاركه خارج الأراضي التي أُعلنت عليها الدولة عام 1948، وبعد أن امتلكت الجيوش التي تحيط بالدولة العبرية، ثم فصائل المقاومة المختلفة، صواريخ تغطي جميع مدن إسرائيل ومواقعها الحيوية، جاء الدور على اقتحام هذه الأراضي، ولأول مرة، بهذا الحجم الهائل والتأثير العميق والقدرة المؤلمة، الأمر الذي يفرض مزيدًا من الضغوط على جغرافية إسرائيل، الضيقة أساسًا.

وبعد أن كانت إسرائيل تفكر في مجال حيوي، من خلال الحروب والمؤامرات تارة، وعمليات التطبيع تارة أخرى، بات لزامًا عليها الآن أن تفكر مليًا في كيفية الحفاظ على الأراضي التي اقتطعتها من الدولة الفلسطينية التاريخية، وأقامت عليها دولتها، لاسيما مع وجود خطط لدى حزب الله أيضًا لاقتحام الجليل الأعلى ومزارع شبعا، بالإضافة إلى سابقة تاريخية ممثلة في "طوفان الأقصى"، والتي لا يوجد ما يمنع تكرارها، ولو بعد سنوات طويلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة